خطورة مادة الكلوروبيرفوس في الزراعة على النبات والحيوان والإنسان: دراسة شاملة
تُعدّ الزراعة من أهم القطاعات الحيوية التي تضمن الأمن الغذائي العالمي، ولكنها في الوقت نفسه تعتمد بشكل كبير على استخدام المبيدات الحشرية لمكافحة الآفات وتحسين الإنتاجية. ومع ذلك، فإن الاستخدام المفرط وغير الرشيد لبعض هذه المبيدات يمكن أن يُشكل تهديدًا خطيرًا على البيئة، وصحة النبات، والحيوان، والإنسان. من بين هذه المبيدات، يبرز "الكلوروبيرفوس" (Chlorpyrifos) كمادة كيميائية أثارت جدلاً واسعًا بسبب تداعياتها السلبية المثبتة علميًا.
ما هو الكلوروبيرفوس؟

الكلوروبيرفوس هو مبيد حشري واسع الطيف ينتمي إلى فئة الفوسفات العضوية (Organophosphates). يعمل عن طريق تثبيط إنزيم "كولينستراز" (Cholinesterase) في الجهاز العصبي للحشرات، مما يؤدي إلى تراكم "أستيل كولين" (Acetylcholine) وخلل في نقل الإشارات العصبية، ومن ثم شلل الحشرة وموتها. لقد تم استخدامه لعقود في مكافحة مجموعة واسعة من الآفات الزراعية مثل المن، وسوس العنكبوت، والديدان القارضة في المحاصيل الحقلية، والخضروات، والفواكه. كما استُخدم أيضًا في بعض التطبيقات غير الزراعية كمبيد حشري في المباني ومكافحة البعوض.
الكلوروبيرفوس وتأثيراته على النبات:
على الرغم من أن الكلوروبيرفوس مُصمم لاستهداف الآفات، إلا أن استخدامه يمكن أن يؤثر سلبًا على النباتات نفسها، خاصة عند تجاوز الجرعات الموصى بها أو سوء التطبيق. قد تشمل هذه التأثيرات:
* تسمم النبات (Phytotoxicity): يمكن أن يسبب الكلوروبيرفوس حروقًا للأوراق، أو تغيرًا في لونها، أو تثبيطًا لنمو النبات، خاصة في النباتات الحساسة أو عند التطبيق في ظروف بيئية معينة مثل درجات الحرارة المرتفعة.
* تأثيرات على الميكروبات النافعة في التربة: أظهرت بعض الأبحاث أن الكلوروبيرفوس يمكن أن يؤثر على نشاط الكائنات الدقيقة المفيدة في التربة، مثل البكتيريا والفطريات التي تلعب دورًا حيويًا في دورات المغذيات وتحسين خصوبة التربة. هذا الخلل يمكن أن يؤثر على امتصاص النبات للمغذيات وبالتالي على نموه وإنتاجيته على المدى الطويل.
* تراكم في الأنسجة النباتية: يمكن أن تتراكم بقايا الكلوروبيرفوس في أنسجة النبات، مما يشكل خطرًا على المستهلكين عند تناول هذه النباتات.
الكلوروبيرفوس وتأثيراته على الحيوان:
تُعدّ الحيوانات، سواء كانت برية أو داجنة، عرضة للتسمم بالكلوروبيرفوس بعدة طرق:
* التعرض المباشر: يمكن أن تتسمم الحيوانات مباشرة عند الرعي في حقول رُشت بالمبيد، أو شرب مياه ملوثة، أو تناول الأعلاف الملوثة.
* تراكم حيوي (Bioaccumulation): يمكن أن يتراكم الكلوروبيرفوس في السلسلة الغذائية. على سبيل المثال، قد تتناول الطيور والحشرات التي تعرضت للمبيد، ثم تُفترس بدورها من قبل حيوانات أكبر، مما يؤدي إلى تركيز المبيد في مستويات أعلى من السلسلة الغذائية.
* التأثير على الجهاز العصبي: مثل الحشرات، يؤثر الكلوروبيرفوس على الجهاز العصبي للحيوانات، مما يؤدي إلى أعراض مثل الارتعاش، وصعوبة التنفس، والتشنجات، وفي الحالات الشديدة، الموت.
* تأثيرات على التكاثر: أظهرت بعض الدراسات أن التعرض للكلوروبيرفوس يمكن أن يؤثر على القدرة الإنجابية للحيوانات، مما يقلل من خصوبتها أو يزيد من تشوهات الأجنة. (مثل دراسة نُشرت في مجلة Environmental Health Perspectives عام 2011 حول تأثير الكلوروبيرفوس على التكاثر في الفئران).
* تأثيرات على الحيوانات المائية: عند تسرب الكلوروبيرفوس إلى المسطحات المائية، يمكن أن يكون له تأثيرات مدمرة على الحياة المائية، بما في ذلك الأسماك والبرمائيات، التي تُعد حساسة للغاية للمبيدات الحشرية.
الكلوروبيرفوس وتأثيراته على الإنسان:
يُعدّ الإنسان الفئة الأكثر تعرضًا للخطر من الكلوروبيرفوس، سواء من خلال التعرض المهني (العمال الزراعيون)، أو التعرض الغذائي (بقايا المبيد في الأطعمة)، أو التعرض البيئي.
* التأثير على الجهاز العصبي: يُعدّ الجهاز العصبي هو الهدف الرئيسي للكلوروبيرفوس في البشر. تُظهر الأبحاث أن التعرض لهذه المادة، حتى بجرعات منخفضة، يمكن أن يؤدي إلى:
* أعراض حادة: تشمل الغثيان، والقيء، والصداع، والدوخة، وضعف العضلات، وعدم وضوح الرؤية، وفي الحالات الشديدة، التشنجات، والغيبوبة، والموت.
* تأثيرات عصبية تنموية لدى الأطفال: تُعدّ هذه النقطة الأكثر إثارة للقلق. أظهرت دراسات متعددة، مثل تلك التي أجراها باحثون في جامعة كولومبيا ونُشرت في مجلة PNAS عام 2012، أن التعرض للكلوروبيرفوس أثناء فترة الحمل أو في مرحلة الطفولة المبكرة يرتبط بانخفاض معدل الذكاء (IQ)، وتأخر في النمو الحركي والمعرفي، وزيادة خطر الإصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، واضطرابات طيف التوحد. هذه التأثيرات لا رجعة فيها ويمكن أن تكون لها عواقب وخيمة على حياة الأطفال المستقبلية.
* تأثيرات على صحة الدماغ: تشير بعض الدراسات إلى أن التعرض المزمن للكلوروبيرفوس قد يزيد من خطر الإصابة ببعض الأمراض العصبية التنكسية مثل مرض باركنسون.
* تأثيرات على الجهاز التنفسي: يمكن أن يسبب استنشاق الكلوروبيرفوس تهيجًا في الجهاز التنفسي، وصعوبة في التنفس، وفي الحالات الشديدة، وذمة رئوية.
* تأثيرات على الجهاز الهضمي: قد يؤدي ابتلاع الكلوروبيرفوس إلى أعراض مثل الغثيان، والقيء، وآلام البطن، والإسهال.
* تأثيرات على الجهاز التناسلي: تشير بعض الأبحاث إلى أن التعرض للكلوروبيرفوس قد يؤثر على الخصوبة في كل من الرجال والنساء.
* تأثيرات على الجهاز المناعي والغدد الصماء: لا تزال الأبحاث جارية لتحديد مدى تأثير الكلوروبيرفوس على الجهاز المناعي ونظام الغدد الصماء في البشر.
أبحاث علمية حول خطورة الكلوروبيرفوس:
لقد قامت العديد من الهيئات العلمية والمنظمات الصحية العالمية بتقييم خطورة الكلوروبيرفوس. من أبرز هذه الأبحاث والدراسات:
* وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA): بعد سنوات من المراجعة والتقييم، أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية قرارًا بحظر جميع استخدامات الكلوروبيرفوس في الأغذية في الولايات المتحدة اعتبارًا من عام 2021، بناءً على المخاطر الكبيرة التي يشكلها على صحة الإنسان، وخاصة الأطفال.
* الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية (EFSA): في عام 2020، خلصت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية إلى أن الكلوروبيرفوس لا يمكن اعتباره آمنًا للاستخدام، وأنه لا يمكن تحديد مستوى آمن للتعرض للمادة. بناءً على هذا التقييم، تم سحب ترخيص الكلوروبيرفوس في الاتحاد الأوروبي.
* دراسات حول التعرض قبل الولادة: أظهرت دراسات رائدة، مثل تلك التي أجراها مركز كولومبيا للصحة البيئية للأطفال (Columbia Center for Children's Environmental Health)، علاقة قوية بين التعرض قبل الولادة للكلوروبيرفوس وتدهور النمو العصبي لدى الأطفال. هذه الدراسات، التي نُشرت في مجلات علمية مرموقة مثل Environmental Health Perspectives وProceedings of the National Academy of Sciences (PNAS)، كانت حاسمة في دعم قرار الحظر.
* دراسات السمية العصبية: أثبتت العديد من الدراسات على الحيوانات أن الكلوروبيرفوس يُعد سمًا عصبيًا قويًا، ويؤثر على تطور الدماغ والسلوك.
الخلاصة والتوصيات:
إن الأدلة العلمية المتزايدة تُشير بوضوح إلى أن الكلوروبيرفوس يُشكل خطرًا جسيمًا على صحة النبات، والحيوان، والإنسان. في ظل هذه المخاطر، أصبح من الضروري اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من التعرض لهذه المادة الكيميائية أو حظرها بالكامل.
لتحقيق زراعة مستدامة وآمنة، يجب علينا:
* حظر الكلوروبيرفوس: يجب على جميع الدول أن تحذو حذو الدول التي حظرت هذه المادة، نظرًا للمخاطر التي لا يمكن تجاهلها.
* التحول إلى البدائل الآمنة: يجب تشجيع وتطوير وتطبيق بدائل أكثر أمانًا لمكافحة الآفات، مثل المكافحة البيولوجية، والمكافحة المتكاملة للآفات (IPM)، واستخدام المبيدات الحيوية الأقل سمية.
* التوعية والتدريب: توعية المزارعين والجمهور بمخاطر الكلوروبيرفوس وتشجيع الممارسات الزراعية المستدامة والآمنة.
* البحث العلمي المستمر: مواصلة البحث العلمي لفهم أعمق لتأثيرات المبيدات الحشرية على البيئة وصحة الإنسان، وتطوير حلول مبتكرة لمكافحة الآفات.
إن صحة كوكبنا وصحة أجيالنا القادمة تعتمد على القرارات التي نتخذها اليوم بشأن استخدام هذه المواد الكيميائية.